Banner 580-170 جوال

تذوق أولاً لتنقد تالياً

صورة ذات صلةعندما أتحدث عن النقد، فأنا لا أتحدث عن إبداء رأيٍ في نصٍ أدبي قد قرأته أو شعر أو قصيد وحسب. حين أقول نقد، فأنا أتحدث عن مهارة، عن فن، كما ككل الفنون. فنٌ يقبل الدراسة، التعلم و الاحتراف كذلك. فإن كان النقد مقتصراً حقاً على رأيٍ تطرحه بشأن ما قرأت، لكانت الكلمتان حتماً مترادفتان في المعنى؛ أعني النقد و الرأي، و هذا ليس صحيحاً كما تدرك و ترى. فالحديث عن النقد مساوي تماماً للحديث عن أي فن من الفنون. و بما أن الفن ليس إلا لغة المشاعر الذي ينفس بها من يمارسها مشاعره عنه أكانت سلبيةً أم إيجابية، فهما سواء في ذلك؛ فالنقد فن كما الفنون. 
لغة تخبر بها عن شعورٍ اعتراك بشأن أمر ما قد اختبرته، تعرضت له، جربه، أياً يكون. فحين أقول، تخبر به عن ما اعتراك من شعور، فهذا يبين لك أن ما قد يعتريك من شعور حتماً ليس لأجل كتابة قد قرأتها. فالنقد لا يقتصر على الكتابة، كنقد نصٍ/شعر قد قرأته. فهو موجه كما الفنون لأي شيء يتسبب في إشعارك بأي شعور، كأغنية، فيلم، مسلسل، نص أدبي، شعر، رواية، مقال، صورة، رسمة، تصميم هندسي، هندسة معمارية، أزياء، تصميم جرافيك، تصرف، قرار، حكم، كتاب… إلخ؛ و كل شيء قابل للنقد. لكن السؤال، ما هو النقد؟ و كيف لك أن تتمكن من النقد؟ و كيف تمارسه كفن؟ إذن، حين ترغب في النقد، عليك قبل كل شيء أن تعلم أن النقد جزء من فن الكتابة، و أن الكتابة فن، كما أن الفن لغة المشاعر التي تتحدث بها شعوراً. لذا، قبل أن تخوض في مجال النقد و ما هيته، اقرأ من فضلك ما هي الكتابة، و كيف تكتب و كيف تتمكن من الكتابة في الموضوع ها هناحسناً، لأخبرك الآن أنه لكي تتمكن من النقد عليك أن تتذوق ما ستنقده للتمكن من نقده، و هذا أمرٌ لا جدال فيه. إذ أن النقد لا يحدث قبل التذوق إطلاقاً؛ و هنا، اسألك، كيف تتذوق؟ إن من ما يصعب على المرء فعله من الأفعال التذوق بنفسه لا بالآخرين. مهلاً، هذا ليس جنوناً قط. إنما التذوق ليس بالأمر السهل كما يظن الجميع، و حين أقول تذوق شيء ما فأنا أعني كل شيء و أي شيء لتتمكن من أن تنقده. فالتذوق مهارة، و قليلون أولئك الذي يتذوقون بلا شوائب من الآخرين، كما هم قليلون أولئك الذين يجيدون الفن. فحين أكون أنا قد أوصيتكَ على مشاهدة فيلم ما، كمثال لا كتعميم، و قلت أن ذاك الفيلم يتحدث عن كذا و كذا، و أنه أعجبني لأنه كذا و كذا؛ فأنا هنا، قد زرعتُ في نفسك شيئاً من الفيلم يشوب على تذوقك له عندما ستشاهده لاحقاً. فحينما تشاهده، يكون نصف ردة فعلك عليه مشوباً بذائقتي أنا التي أوصيتك عليه مسبقاً. و هذا لا ينطبق على الفيلم وحسب كما قلنا، و إنما كل شيء قابل للنقد. فبالنتيجة إذن، هذا ينطبق في المقام الأول على كل شيء قابل للتذوق.  لذا، لأخبرك بأنه يتوجب عليك حينما ترغب في أن تتذوق شيئاً ما، أمراً ما، أن لا تستند في تذوقك على انطباعك عنه. فالانطباع الذي في نفسك، أساسه غالباً من الآخرين لا منك. لهذا، كان لزاماً أن تستبعد انطباعك عن ما أنت شارعٌ بتذوقه لتتمكن من نقده بصورة خالية من الشوائب. و هذا يتضمن الحالة التي تكون عليها، لنقل الحالة النفسية التي تكون عليها. فإذ ما أنت ستشاهد الفيلم الذي قد أوصيتك عليه في حالة من حالات فرحك، فانطباعك عنه ينقسم إلا ثلاث، أحدها ذائقتي التي زرعتها فيك قبل أن تشرع في مشاهدته، و ثانيها حالتك، الفرح الذي يعمك كمثال لأي حالة تكون عليها؛ و الذي بطبيعة الحال، سيكون الجزء الأكبر من انطباعك عن الفيلم الذي ستشاهده في تلك الحالة. بهذا، لم يتبقى إلا جزء يسير نستطيع أن نقول عنه، انطباعك الخالص الصافي من أي شيء و الذي تظن أنك تستند عليه في نقدك حالما تشرع في النقد. لكن الحقيقة أنك لا تستند على هذا الجزء الصافي من انطباعك فيما تنقد، و إنما تنقد استناداً على انطباعك كله الذي يحوي على جزء من ذائقتي، حالتك، و انطباعك الخالص. لذا، يتوجب عليك أن تركز على الحالة التي ستقرر فيها دراسة أمرٍ ما لتنقده. فالانطباع الخالي من الشوائب، ليس سهلاً صنعه ليمكنك من النقد السليم. حين ذلك، تصنع فيك انطباعاً خالصاً بلا شوائب، تتمكن من تذوق الشيء بلا شوائب مما يتيح لك أن تنقد بشكل لا تحيز فيه لأي جهةٍ بأي شكل من الأشكال. على هذا، يكون النقد ليكتمل لديك حين تشرع في كتابته و صنعه، في ثلاث نقاط كما التالي:  أولاً: ابدي رأيك. حين تبدأ في النقد، عليك أن تبدي رأيك فيما تنقده أياً كان رأيك، أكان لصالح ما تنقده أم لا. و إبداء الرأي فيما تنقد، قد يكون مبطناً كما يفعل ذلك المتمكنين من النقد، و قد يكون صريحاً جلياً كما يفعل الغالب ذلك. هذا لا يهم، ما يهم هنا، أن يحوي النقد على رأيك الشخصي أياً يكون فيما تنقده. لكن، إبداء الرأي لا يكون في ذكر كيف ظهر ما تنقده، فهذا ليس رأياً و إنما وصفاً لما ظهر عليه ما تنقده، و الذي يتمكن الكل من رؤيته و معرفة ما ظهر عليه. إنما الرأي هو اعتقاد يتشكل لديك في ما تراه بعدما تتأمله. و على نقدك أن يحوي ذلك بشكل جيد صريحاً كان أم مبطناً. فالنقد الذي لا يحوي أي رأيٍ شخصي، غير مكتمل، و ناقصٌ من العنصر الأساسي في النقد.  ثانياً: التحيل و التفصيص. التحيل و التفصيص فيما تنقد، يصور لك ما تنقده على مقاطع، أجزاء، قطع، سمه ما شئت. فما تنقده يختلف فيه رأيك في أجزاءه، و عليك أن تحلل ذلك بطريقة سليمة. فالشيء الذي تنقده، لا تنقده و كأنه كيان واحد، عليك أن تحلله و تفصصه إلا أجزاء لتتمكن من رؤيته بالصورة التي تمنحك المقدرة على إعطاءه حقه الكامل. فالمنقود دائماً، لا بد و أن لا يكون على هيئة كيانٍ واحد. لماذا؟ لأن عند صناعته أو انتاجه، أياً كان أو يكون، كان يظهر فيه و يدخل فيه أموراً مختلفة كثيرة على فتراتٍ متفاوتة؛ أيام، سنوات، ساعات، أجزاء من الثانية. لهذا، عليك تحليله لتتمكن من الوصول لمكامنه كله و كل ما يحوي من حضور. لا أن تنظر إلى السطح و تبدأ في نقد ما يظهر منه لك و لغيرك ليس إلا. فعلى هذا، تتمكن من فحص جوانبه، السلبية و الإيجابية، الصائبة و الخاطئة، المضيئة و الباهتة؛ و التي ستبدي بها رأيك كما قلنا في بادئ الأمر. ثالثاً: الرؤية.  تتمحور الرؤية فيما تراه من ما تنقده لو أنه بدى عليه بعد التعديل. أي، أنك تبدي عندما تنقد، رؤيتك لما تنقده كيف يكون بعد التحسين استناداً على ما ذكرته من رأيك المستند على تحليلك و تفصيصك للشيء المنقود. كما أن هذه الرؤية لا تقتصر على العيوب و حسب، و إنما أيضاً ما كان تطوله للأفضل لو أنه بدى عليه. يمكن اختصار فكرة الرؤية على أنها ما ستوصي به في العمل من نسخته الثانية، لو أتيحت لك فرصة عمل نسخة ثانية مطورة منه؟ ما وصايتك له ليظهر بصورة أفضل مما ظهر عليه الآن بعد مراجعتك و تحليلك.  بهذه النقاط الثلاث، تكتمل لك عناصر النقد الثلاث؛ و عليك الشروع في كتابة نقدك الذي ما هو إلا ردة فعلك على أمر ما، و الذي سيكون على هيئة نقد تتحدث من خلاله عن مشاعرك تجاه ما تنقد.  بعد كل هذا، لا حاجة لك لأن تعرف ما معنى النقد، و ما الذي قد يعنيه. لأن كل هذا لا يهم مطلقاً. فالتعريفات ليست إلا حدوداً مرسومة تمنعك دائماً من العبور، نحو ضفة الإبداع. ففي حقيقة الأمر، كل ما يهم الآن كيف ستبدي لي ردة فعلك، تعقيبك، وجهة نظرك و رأيك بالتحسين عن كل ما قد تتعرض له من قراءة، حادث، أمر، حكم، استماع، رؤية، مشاهدة… إلخ؛ و حين تفعل ذلك بطريقة سليمة. أنت تنقد. أنت تكتب نقداً سليماً مبهراً. أنت تتمكن من النقد حتماً.
 

للمزيد هنا , مكتبة الاقلاع

الوسوم:

Trackback from your site.

اكتب تعليقاً

يجب تسجيل الدخول لكتابة تعليق.

ابحث بالتصنيفات